رحل ابا وضاح هذا الصباح و(المقدر لابد يكون) ✍️ محمد طلب
*رحل ابا وضاح هذا الصباح و(المقدر لابد يكون)*
البارحة في ساعة صفاء روحي وذهني قبل ساعات من وفاتك مر خيالك امام ناظري وفطنت اني انقطعت عنك لاسابيع في هذه الايام التعيسة من الرعب والدمار والخوف والقتال والكل علي اعصابه فرفعت هاتفي للاتصال لكني لم اوفق فاتجهت مسرعاً وكاني اسابق شئياً ما لا اعرفه نحو رقمك علي الواتساب وكتبت لك في رسائل قصيرة متتالية بعد السلام والتحايا والسؤال عن الاحوال والصحة ونتائج اخر الفحوصات ثم (نجرت) لك طرفة لعلمي انك جميل تحب الجمال و(للمقطع) عندك موقع حسن كتبت( الطرفة المنجورة) وانا اعلم انها سوف تنتزع منك ابتسامة رغم قسوة الالم بل رايتك ضاحكاً امام ناظري وانتظرت حتي اري قرأتك الفعلية التي تؤكدها اشعارات الواتساب ولكن يبدو ان هناك الكثير من الخفايا في عالمنا الكبير من محفزات التعمق والتفكير في امر الارواح وتواردها وتواصلها المثير…*يبدو ان روحك الطيبة المحبة للخير والجمال كانت في ساعة طواف تودع دنياها والجسد المنهك من جرعات العلاج ومحاولات البقاء فزارت روحي ضمن زياراتها في تلك الليلة من الاحياء والاموات قبل مغادرتها هذه الفانية فكتبت لك ما كتبت وقد كنت معي و وصلتك تلك الرسائل رغم ان الظاهر لي انها لم تصلك وغادرت الحياة قبل ان يراها الواتساب* والتكنولجيا لاني صحوت صبيحة اليوم التالي وتفقدت الرسائل فوجدتها كما هي ولم ينظرها ناظر بعين الجسد لكن يسكنني يقين بانك اطلعت عليها وعلي ما بالقلب من محبة في تلك اللحظات كانوا قد نصبوا سرادق العزاء وروحي مازالت تائهة الي ان وصلها الخبر اليقين المؤلم الحزين..فامتلأت دواخلي حزناً نبيلاً وهطلت الدموع الحبيسة دون توقف
وتذكرت ايامنا الاخيرة معكم بالقاهرة اثناء فترة المرض و سيطرت هذه الصور والمشاهد عليّ رغم كثافة ذكرياتنا معك و رايت كيف ان الرجل كان يتبسم ويقابلنا هاشاً باشاً وكانه في رحلة ترفيهية وليس علاجية من هذا المرض الفتاك لقد كان الرجل صابراً ومحتسباً يستانس بوجودنا والاخوان عمر حسن الحاج و احمد السيخ ادريس وسعد الماحي ومزمل الوسيلة واشقائي اسامة ومصعب في حضرة ابنه وضاح وزوجه نوال…
و يسترجع معنا الذكريات والحكايات وما يعلمه من (المقطع) وحكايات التجوال بين قري السودان والمدن والاغتراب وشارع الجمهورية قبل ان يحط عصا الترحال بدكانه العامر بفريق قدام (النمر) والمعتصم لا تمل الجلوس اليه ينقلك بين حدائق انسه الجميل (وازهاره اليانعة داخل خميلة) مجلسه عامر وحديثه فاخر بالوجد زاخر … وكم وددت ان اطلب منه ان يغني لنا رغم ظروفه وظروفي المرضية لكني في زيارة لاحقة اتيته من بوابة خلفية عبر اغنية( ما بخاف من شئ برضي خابر المقدر لابد يكون)
كان اخر لقاء بيننا في السودان عندما كنت مريضا بالمستشفي وجاء لزيارتي ووجدنا قد كُتب لنا الخروج ولحق بنا في البيت وكان مرهقاً جداً يتصبب عرقاً وعلامات الاعياء ظاهرة عليه واذكر ان والدي رفع له صندوق مناديل وكوز موية بارد فشرب وتنفس ثم ابتسم تلك الابتسامة الصادقة وانسنا بوجوده معنا ورفع روحي المعنوية بعد معاناتي مع (رويال كير) وما هي الا ايام معدودات حتي سمعنا خبر مرضه واتجاهه نحو القاهرة ثم لحقنا به لذات الغرض…
معتصم رحمه الله عرفه الجميع رجل هادئ محترم خفيض الصوت مطروح الوجه واليد عفيف اللسان كثير التبسم اجتماعي من طراز فريد وله علاقات واسعة كما انه واصل لارحامه في كل مكان ولاينقطع عن مناسبتهم في الاتراح والافراح كما انه مجتهد في حياته العملية وتجارته كريم الوجه واليد واللسان وله ادب مع جماليات الحياة يلتزم فيها شريعة الخالق وعرف اسرته الكريمة يعشق اغاني الحقيبة يطرب لها ويُطرب بها… وعندما اصابه المرض اللعين بكاه البعض قبل رحيله حتي ظننت انه اصبح بلا حراك وعندما زرته بالقاهرة وانا علي الكرسي المتحرك
وقفت و حضنته وحاولت حبس كثير من الدموع التي سالت انهاراً صباح اليوم لهذا الفراق البغيض والفراغ العريض الذي تركه المرحوم
في تلك الزيارة استانسنا به كثيرا ووجدته قوياً متماسكاً ومازال مبتسماً ابتسامة استطاعت ان تمحو الصورة الذهنية التي رسمتها لنا الوسائط و وجدته واسرته الصغيرة صابرون ومحتسبون يجاهدون من اجل العلاج بروح معنوية عالية والاطباء يزرعون الامل ويهتمون كثيراً بالمريض غير ما واجهنا في بلدنا النازف الجريح وكلنا للمولي رجاء ودعاء ان نعود بخير و عافية للوطن الذي عشقناه لكن يبدو ان روح المعتصم الشريفة العفيفة النظيفة الشفافة اللطيفة رفضت بامر ربها العودة الي وطن غير الذي عرفه معتصم وعاش فيه اجمل ايام عمره والاخبار علي التلفزيون تنقل له كل القبح وهو الجميل عاشق الجمال وداعاً ابا وضاح وانتم السابقون ونحن اللاحقون ما عدنا نحتمل كل هذا القبح والكذب والنفاق والقتل والنهب والدمار
في زيارتي الثانية أتيته وكنت مصراً علي ان اخلق نوع من الانس يجعل الجميع يخرج من حالة (مريض ومرافق) وكنت قبلها قد خلقت علاقة خاصة بيني وبين اغنية محمد عبد الله الامي( ما بخاف من شئ برضي خابر المقدر لابد يكون) ومن بوابة خلفية سالته عن هذه الاغنية وبدأت اردد له مقاطعها شعراً واحكي عن جمال كلماتها والقيم الاخلاقية والدينية الراقية التي حوتها واختلافها الكبير عن اغنيات عصرها والروح الايمانية العالية التي تحتشد بها الاغنية ثم حاولت
استدرجته لاداء الاغنية فادعي ضاحكاً عدم حفظه لهذه الاغنية فقلت له (كيف يا معتصم ما تحفظ درة ذي دي) فابتسم كالعادة واستطرد( الامي غناهو سمح ومختلف)
قمت باستغلال جو ابتسامته الرائعة وضغطت علي الهاتف وادرت الاغنية التي كنت قد جهزتها مسبقاً بصوت بادي محمد الطيب فعم الصمت المكان ولم نعد نسمع سوي (المقدر لابد يكون) فسرقت النظر نحو المعتصم رحمه الله فوجدته (ظابط زمنو) برجله وحركة اصبعه علي مسند الكرسي الوثير وهو يردد براحة تامة ونفس مطمئنة وذات الابتسامة يردد مع صوت بادي
*ان اتاني الهم جيشو دافر*
*يلقي ياخلاي صبري وافر*
*يلقي عزمي التام ليهُ خافر*
*يلقي قلبي شجاع ما جبون…*
وحقاً قد كنت شجاعاً ايها (الخال) الصدوق وحينها ادركت ان الرجل بخير ولا يخشي ما نخشاه ولايجزع وقلبه ملئ بالايمان والجسارة وسوف يقضي ما كتب الله له من عمر قانعاً وليس (قنعان) بان (المقدر المقدر لابد يكون)
ودعناه واسرته بعد ان قضينا ليلة ملؤها الامل والتفاؤل واخذنا شحنة عالية من الايجابية المحفزة لخوض دروب الحياة ومسالكها الوعرة بحلوها ومرها الذي يمثل القيم الجمالية لهذه الحياة… تكررت زياراتنا مثلما كان يزورنا ابنه وضاح الذي التقيته للمرة الاولي ووجدته كما والده يشبهه في الكثير شكلاً ومضموناً (ومن شابه اباه ما ظلم) لقد دخل ذلك الشاب قلوبنا وفتح بها نفاجات ليتربع عليها فقد اتي مسرعاً لوالده من السعودية ومكث معه شهوراً نسال الله ان يصبره وهو يقف الان علي راس والدته واخواته حفظهم الله جميعاً
في اخر ساعات لنا بالقاهرة اصر معتصم ان نفطر معهم ونذهب المطار وكانت في تلك الايام قد توفت خالته والدة زوجه التي سافرت وقتها وحضرت الوفاة وقال لي احتمال ارجع السودان فقلت له (اوعي ترجع) انت ما شاء الله ماشي كويس في العلاج ولو رجعت ممكن تنتتكس واصل علاجك هنا وارح جسدك… فطرنا معه ثم ودعنا حتي المصعد وكانت اخر مرة الحظ فيها وجهه المبتسم عندما قفل المصعد وهبطنا وكانت روحه تصعد طول الشهور الفائتة وهبطنا نحن في اوحال هذه الحروب والقتال بلا ذنب جنينا….
عندما وصلنا المطار وجدنا قد تم اغلاق الكاونتر علي رحلتنا ولم تجدي محاولاتنا… فتنازعني امر العودة لمعتصم ولكن اصرار الاخ عمر حسن واتصالاته المكثفة التي اسفرت عن حجز تذاكر في رحلة بعد خمس ساعات وعدنا والحمد لله…..
وداعاً الي رب كريم غفور رحيم ايها الحبيب ومن خلف مثل وضاح لم يمت… تعازينا الحارة له ولوالدته واخواته واخواله واعمامه وكل اهلي واحبابي ال السر رباح
وداعاً صاحب الابتسامة الصادقة وهي القاسم المشترك عند ال السر رباح الا ان طابعها عندك خاص ومختلف وداعاً ايها الطيب معتصم علي الطيب طبت وطاب مقامك في الفردوس واسرارها المخفية وحلتها البهية وحريرها وخريرها واشجارها وانهارها وسدرها المخضود وطلحها المنضود وقلوب اهلها التقية النقية ونفوسهم بربها حفية ومتعك الله باللقاء وكتب لك بالفردوس البقاء مع الاتقياء مستانساً بانسهم وهمسهم وكل ما لم تسمع به اذن او تره عين او ينظره ناظر او مر بخاطر اوخالج خيال شاعر وحفك ساتر الحور العين وخفرك خافر ملائكة الرحمن وخدام الجنان… ولك مني السلام واهديك المقدر لابد يكون لاني احسب ان ماجاء بها من( العمل الصالح) لو عملنا به والخير الطامح والايمان الجامح والميزان الراجح و احسب ان كل ما جاء بها من وصايا رسولنا الكريم و(المقدر لابد يكون)
*مابخاف من شئ برضي صابر*
*المقدر لابد يكون*
*ان أتاني الهم جيشه دافر*
*يلقى ياخلاي صبري وافر*
*يلقى عزمي التام ليه خافر*
*ويلقى قلبي شجاع وما جبون*
*بالعداء معروف ما ببادر*
*ومابخون الجار ماني غادر*
*وما بقول للناس متلي نادر*
*بل بقول للخالق شؤون*
*ما عصيت مولاي ماني فاجر*
*لا ولا بالعالم بتاجر*
*لم أكن كل يوم لي لون*
*الثبات معروف لي معاصر*
*لو بقيت في داخل معاصر*
*والإله غير شك لي ناصر*
*رغم انف الواشي الخؤون*
*قول لشاهد الزور فيما ساير*
*هدي روعك قبل الخسائر*
*ياما قبلك عميت بصاير*
*من لساني وقولي الهتون*
*قول لأهل الجور والمساخر*
*مافي أول ما ليهو آخر*
*مابدوم العز والمفاخر*
*وما بدوم الظل والحصون*
*وما جحدت الخير ماني كافر*
*عن سبيل الحق ماني نافر*
*وما ضمرت السوء ماني حافر*
*للصديق هاويات السجون*
ونشهد ان كل ما ورد بهذه القصيدة تمثل في شخصك عندما كنت بيننا رحمك الله
وانتم السابقون ونحن اللاحقون… وانا لله وانا اليه راجعون..
سلام سلام
محمد طلب
7/7/2023