رمضان ومنهجية التغيير – وقفات، وتدبرات رمضانية – اليوم الخامس عشر ✍️ عادل عسوم

لدى الكثير منا سلوكيات وطباع لا تعجبه وتقصير يود الخلاص منه، لكنه ينهزم أمامه لسبب أو لآخر فيعجز عن التغيير، ويتكاثف هذا الشعور بالعجز ليصل حد اليأْس.
عندما تسأله لماذا تغضب بهذه السرعة وتثور؟! يرد عليك قائلا: هذا طبعي الذي ولدت عليه!
وقد يجيبك المعتاد على التدخين وسواه إجابة إنهزامية مماثلة بكونه اعتاد على ذلك و(تبرمج) عليه!
يقول علماء النفس السلوكي بأن كل ذلك يمكن تغييره اذا سعى المرء إلى خارطة طريق تعينه على ذلك، لكن أي تغيير نفسي أو سلوكي يجب أن يكرر من 6 إلى 21 مرة لضمان نجاحه.
وللطف الله بنا وهبنا -وهو الرحيم بنا- فرصة عظيمة للتغيير، إنه شهر رمضان،
ان الصوم الذي فرضه الله علينا وعلى الذين من قبلنا نشدانا للتقوى.
ان رمضان فرصة لتغيير العادات المستعبدة للنفس والسلوكيات السالبة، وهو سانحة تعين على الإرتقاء بالنفس خلال ثلاثين يوما متصلة.
لقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى، فقال له: “أما سلكت طريقاً ذا شوك، قال: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى”
وهذا ال(تشمير والاجتهاد) الذي يعنيه الصحابي الجليل ابي ابن كعب رضي الله عنه يتمثل في جهاد النفس، والعبد منا إن جاهد نفسه الأمارة بالسوء ينال الهداية من الله كما قال ربنا:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} العنكبوت 69.
قال ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد:
(كَانَ جِهَادُ النَّفْسِ مُقَدَّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ فِي الْخَارِجِ، وَأَصْلًا لَهُ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوَّلًا، لِتَفْعَلَ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَتَتْرُكَ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ، وَيُحَارِبهَا فِي اللَّهِ: لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ فِي الْخَارِجِ؛ فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوِّهِ، وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ: وَعَدُوُّهُ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ، مُتَسَلِّطٌ عَلَيْهِ، لَمْ يُجَاهِدْهُ، وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللَّهِ؛ بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إِلَى عَدُوِّهِ، حَتّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ” انتهى.
وجهاد النفس هذا يحتاج إلى إيمانيات عالية، وصحة بدنية قوية بتطوير جهاز المناعة الذاتي، وصحة نفسية نتاج صبر يعين على التحمل، واحساس مرهف بحال الفقراء والمساكين من حولنا، وشخصية قوية لاتطغيها المادة ولاتركسها النعمة وكثرة المال، وروح وثابة موصولة بالسماء من خلال تلاوة القرآن الكريم خلال النهار والقيام في الليل، وعقلية يلزمها الانقطاع قليلا عن الدنيا فلاتكون أكبر الهم، ومهارات ايمانية متنوعة ومتنامية يكتسبها المرء طوال ايام متتالية كما قال علماء النفس اعلاه…
كل ذلك وأكثر يا أحباب نجده في شهر رمضان، إنه شهر التغيير حقا، وقد قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
ومن تيسير الله علينا جعل الله رمضان شهرا يتشاركه كل المسلمين، فيجد الصائم من يعينه ويتشارك معه الصيام، ولو كان الصيام لكل فرد على حدة لثقل على الناس وصعب أمره…
نصوم لله بالنهار، وفي نهارنا نتعهد المصحف فنتلو كلام الله، ونتصدق ونزكي، وما أن توشك الشمس على المغيب إلا وتجد البروش بسطت أمام البيوت وبموازاة الطرق، وتلك محمدة حبانا الله بها في هذا السودان الجميل، أسأل الله أن لاتموت بعد انتصار الجيش ان شاء الله وعونه ويعود الناس إلى بيوتهم.
ورمضان في حقيقته ثورة عظيمة ضد الشهوات والعادات غير الحميدة، إنه فرصة لاتعوض لكل من أراد إحداث تغيير في نفسه ليتوب -في البدء- ويرجع إلى الله، وتلكم والله لأعظم ثورة يحدثها العبد في نفسه ووجدانه، ثورة ضد نوازع الشر داخله، ثورة ضد وساوس الشيطان ونزغاته، فيتخلص من القيود المعوقة التي تعوق سيره زلفى إلى الله.
والصيام بالشروط التي حددها الله ورسوله يمثل مدرسة حقيقية ودورة تدريبية لتعلم الأخلاق والسلوك، ولنتأمل حديث نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال: (فإذا كان يوم صوم أحدِكم، فلا يرفثْ ولا يصخبْ، فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَلَه، فليقُلْ: إنِّي امرُؤ صائم) مُتفَق عليه.
وهذه الفقرة من الحديث مخصصة لتعليمنا الأخلاق والسلوك، وتدريبنا على تغيير أخلاقنا السيئة إلى أخلاق حسنة، وعباد الله المتقين الصادقين يحرِصون على طاعة الله ورسوله، حيث يحرصون إلى اتمام كل يوم من أيام الشهر دون رفث ولا صخب، بل ولا حتى الرد على الذي يسبهم أو شتمهم وإن هدَّدهم بالقتال!، سبحان الله، إذ يمكن للإنسان ان يصبر على أن لا يصخب ولا يؤذي الناس ولا يظلمهم؛ لكن أصعب مِن ذلك أن يصبر ويمسك نفسه عن الرد على الذي يعتدى عليه بالسب والشتم، والأصعب أكثر أن يصبر على الذي يعتدى عليه بيده!، لكن حديث نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك واضح المعنى والدلالة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضبِ).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء).
إنها لعمري المجاهدة الحقة للنفس والمكسبة للتغيير يا أحباب، إنها حالة من السمو الروحي لا يبلغها إلا الذي يتأمل حكمة الله فيما وراء فريضة الصيام وهي التقوى.
الصوم وجاء للشاب عند تعذر الزواج، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
في رمضان تصفد مردة الشياطين فلا يصلون إلى ما كانوا يصلون إليه في غير رمضان، فينفرد المسلم بنفسه ليجاهدها وينتصر عليها، ولله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: (خاب وخسر من أدرك رمضان ولم يغفر له).
وفي رمضان ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، حيث:
{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} الرعد 3
فما أعظمها من بشارة يا أحباب،
انه شهر فضله الله على سائر الشهور، وجعل أيامه من خير أيام العام، لذلك يعد فرصة عظيمة للإقبال على الله تعالى والاستزادة من العبادة.
والصيام يكسب الجسد صحة وعافية كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم (صوموا تصحوا)، وقد اثبتت العديد من الابحاث الطبية والصحية فوائد الصيام العديدة، ولعلي ان شاء الله افرد لذلك مقالا منفصلا في قابل الايام.
اللهم اعنا على الصيام والقيام واجعلنا من المتقين، اللهم أصلح لنا نفوسنا وزكها انت خير من زكاها، اللهم أعن كل مبتلى على التوبة الصادقة والتغيير إلى الصلاح والاخبات إليك، اللهم أصلح لنا سوداننا وارفع عنه البلاء، واكفنا شر كل متياسر وعلماني يدعو إلى فصل دينك، انك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.
وإلى المقال اليوم السادس عشر بحول الله.
آمنت بالله.
adilassoom@gmail.com