أخر الأخبار

نبيل متوكل.. رهق المسير-وجه الحقيقة-إبراهيم شقلاوي

في فاتحة العام 2008 وأنا أبدأ أولى خطواتي في إعداد رسالة الماجستير عن (أثر التحولات الفكرية والسياسية على المسرح في السودان).. وجهني البروف شمس الدين يونس بوصفه المشرف على بحثي أن أبدأ أولا بالإستماع لعدد من رواد المسرح السوداني كتاب وممثلين ومخرجين حتى استطيع أن أرسم خارطة طريق لموضوع البحث لعلي أجد إضافات جيدة تسهم في اتساع المحاور وتضيف الجديد.. وسمى لي عدد من الرموز المبدعة للدراما أو التي ساهمت في أداء المسرحيات او التي أخرجت الأعمال أو تولت عمليات الإنتاج.

 

التقيت عدد من الأساتذة بروف سعد يوسف بروف عثمان جمال الدين د. عادل حربي كانت أولى وصاياهم أن الموضوع صعب وسهل في ذات الوقت.. إذ ان الكتابة في المسرح السياسي من أصعب الكتابات النقدية.. إلا إذا كان الباحث محايدا ومجردا من الخلفيات السياسية ولديه القدرة الكافية للاشباع الجمالي للذائقة الفردية والجماعية من خلال التحليل والسرد وتعقب الأحداث ورصدها..حتى يقدم مادة نقدية جيدة ومتماسكة وعلمية ترقى لأن تكون مرجع من بعد ذلك للأكاديميين والمهتمين بالمجال.

 

حملت تلك النصيحة بعد تلك الجلسة الماتعة التي وجدت فيها الدعم الكافي للولوج الي المجال.. هذا بالإضافة إلى خلفيتي كدارس للفلسفة والإعلام التي أضفت عليها دراسات أخرى جعلتني التزم التزاما صارما بالمواجهات التي قال عنها الأساتذة.. حيث كانت أولى لقاءاتي التي صنعتها الصدفة أكثر من التدابير المسبقة.. بالرغم من أن الرجل كان ضمن قائمتي.. التقيت (نبيل متوكل) بعد ورشة بقاعة وزارة الثقافة والإعلام.. شاخصا بأناقته المعهودة وقدرته الفائقة على الحديث المسترسل بلا انقطاع.. كان حينها يحمل كوب من القهوة التي ملأت رائحتها المكان.. بجانب مجموعة من الأوراق .. عرفت بعدها أنها نصوص لمسرحيات كان من بينها على ما اذكر (عنبر المجنونات) و (برلمان النساء) للمخرج عماد الدين ابراهيم وأخري لقاسم ابو زيد (يا نحن يا هم) ونصوص أخرى يبدو أن الرجل كان يجمع معالم تجربته المميزة التي بدأها مع عملاق المسرح السوداني الفاضل سعيد.

 

الرجل كما نعلم أحد رواد هذه المدرسة الاجتماعية الاصلاحية حيث قدم مع سعيد.. أشهر المسرحيات الاجتماعية التي كان يمتاز بها أمثال.. النصف الحلو ــ أكل عيش ــ نحن كده ــ تباشير ــ جارة السوء ــ عم صابر.. واخرى.. حدثني أنه بدأ العمل المسرحي في العام 1972 بنشاط متعدد للأطفال التقى بعدها الفاضل سعيد ليقدم معه ما يقارب العشرين عمل كانت من أميز الأعمال الخالدة في المسرح السوداني.. كذلك رصيد آخر مع مكي سنادة وعماد الدين ابراهيم ومجدي النور وقاسم ابو زيد واسامة سالم وآخرين يفوق الأربعين عمل.. كان نبيل نبيل في اختياراته يتعامل مع النص الدرامي كانه جزء منه كما قال: ومع الشخصيات كأنها واقع يجسده بحب خالص للشخصية والمهنة.

 

قال: أنه لم يكن يقدم على اختيار مسرحياته إلا إذا رأي أنها تخدم القضايا الإجتماعية وتساهم في الإصلاح والقيم وتطوير الذائقة الجمالية للجمهور.. وأنه يفتخر ويحترم كل الشخصيات التي يقوم بأدائها وتظل محفورة في ذاكرته.

 

كذلك حدثني عن دراما التلفزيون التي كانت له اسهامات كبيرة فيها مع نادية احمد بابكر وسمية عبد اللطيف وجمال حسن سعيد.. وآخرين.. أهم أعماله كانت (أقمار الضواحي) و( اللواء الأبيض) في حديثه حينها عن التحولات التي يحدثها المسرح في الجانب الفكري والسياسي للمجتمعات أكد أنها تحولات كبيرة من واقع رسالة المسرح الإصلاحية.. عرفت الرجل في تلك الجلسة الممتدة التي قطعها الدخول المفاجي للاستاذ مصطفي احمد الخليفة الذي نادي على الرجل للحاق بموعد يبدو أنه مع احد المسؤلين.. الرجل استأذن في احترام ووعد بجلسة أخرى تمت لكن كانت على عجل اقترح على أن اكتب رؤس موضوعات وهو يجيب عليها وقد فعل في التزام.

 

إنتهت المقابلات ولم ينتهي انطباعي الجميل عن الرجل الجميل (نبيل متوكل) الذي كان المسرح احد الأسباب التي اقعدت به نتيجة إصابة بالغة في الظهر ضمن بروفات (مسرحية عنبر المجنونات) هذه الإصابة (بالغضروف) التي لازمته كثيرا وكانت سببا في آن يختم حياته الفنية بعد معاناة طويلة مع المرض.. كان حوله في ازمته المرضية في بداياتها كل محبيه وعدد من الزملاء وأسرته التي ظلت تلازمه تبادله الوفاء بالوفاء والحب بالحب.

 

الرجل كان محبا للدراما التي تقدم النصح وتصلح المجتمعات كان ضد الابتزال وكان يدرك تماما خطورة الدراما العابرة للحدود عبر الوسائط المختلفة وكانت نصيحته دائما يجب أن تهتم الدولة ويهتم المجتمع ويهتم كافة الفاعلين في دعم الدراما ودعم الإنتاج الدرامي الذي يتناسب مع قيم مجتمعاتنا و يدعم الوحدة الوطنية ويعلي مكارم الأخلاق ويجعل الوطن مكرما بين الناس.. الرجل كان يؤمن بأن المسرح يعالج الواقع ويحفظ الموروثات والعادات والتقاليد..وكريم الخصال.

 

ودعنا بالامس الدرامي الفذ( نبيل متوكل) بعد معاناة طويلة مع المرض الذي نال من جسده النحيل وعزمه الذي هدته الحرب التي أخرجته من مأمنه و فرضت عليه وعلى أسرته واقع أليم .. ارتاح من الواهن و رهق المسير.. بعيدا عن خشبة المسرح وعن محبيه وجيرانه وعن مدينته الحبيبة التي ولد فيها.. بحرى حي الدناقلة التى شكلت بداياته فى سبعينيات القرن الماضي مع عدد من نجوم الدراما السودانيين والعرب.

 

رحل استاذنا نبيل بتاريخه الناصع واياديه البيضاء المحبة للخير والحق والجمال.. رحل بكل ذلك النبل المركوز في اسمه ووسمه وسيرته التي كانت تضج بالخير و بالعطاء المسرحى والاذاعى والتلفزيوني.. حيث شارك بما تجاوز المائه وعشرون عملا أو يزيد متنقلا بين المسرح والاذاعة والتلفزيون.. حيث شكلت حياته الجادة مسيرته الفنية ووضعت بصمة واضحة في طريق القيم والالتزام تجاه الوطن والمجتمع و الدارسين ..

تقبله الله في جنات الفردوس بواسع رحمته وأكرم نزله ووسع مدخله وآنس وحشته وربط على قلوب ذويه وأهل بيته واهل الدراما قاطبة وعارفي فضله.. إنا لله وإنا إليه راجعون..

عليهم رحمة الله جميعا اجتهدوا في إصلاح المجتمع عبر المسرح على طريقتهم وكانوا مجيدين .

دمتم بخير وعافية..

23 يوليو 2024م.

Shglawi55@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى